كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وربما كان في المندوبات؛ كما تقول: ما كان لك يا فلان أن تترك النوافل، ونحو هذا.
الثالثة: في هذه الآية دليل بل نص في أن الكفاءة لا تعتبر في الأحساب وإنما تعتبر في الأديان؛ خلافًا لمالك والشافعيّ والمغيرة وسُحْنون.
وذلك أن الموالي تزوّجت في قريش؛ تزوّج زيد زينب بنت جحش.
وتزوّج المِقداد بن الأسود ضباعة بنت الزبير.
وزوّج أبو حذيفة سالمًا من فاطمة بنت الوليد بن عُتبة.
وتزوّج بلال أخت عبد الرحمن بن عوف.
وقد تقدّم هذا المعنى في غير موضع.
الرابعة: قوله تعالى: {أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ} قرأ الكوفيون: {أَنْ يَكُونَ} بالياء.
وهو اختيار أبي عبيد؛ لأنه قد فرق بين المؤنث وبين فعله.
الباقون بالتاء؛ لأن اللفظ مؤنث فتأنيث فعله حسن.
والتذكير على أن الخِيرة بمعنى التخيير؛ فالخِيرة مصدر بمعنى الاختيار.
وقرأ ابن السَّمَيْقعَ {الخِيْرة} بإسكان الياء.
وهذه الآية في ضمن قوله تعالى: {النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6].
ثم توعد تعالى وأخبر أن من يعص الله ورسوله فقد ضل.
وهذا أدل دليل على ما ذهب إليه الجمهور من فقهائنا، وفقهاء أصحاب الإمام الشافعي وبعض الأصوليين، من أن صيغة أفعل للوجوب في أصل وضعها؛ لأن الله تبارك وتعالى نفى خيرة المكلّف عند سماع أمره وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم أطلق على من بقيت له خيرة عند صدور الأمر اسم المعصية، ثم علّق على المعصية بذلك الضلالَ، فلزم حمل الأمر على الوجوب. والله أعلم.
{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} فيه تسع مسائل:
الأولى: روى الترمذيّ قال: حدّثنا عليّ بن حجر قال: حدثنا داود بن الزِّبْرقان عن داود بن أبي هند عن الشعبيّ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتمًا شيئًا من الوحي لكتم هذه الآية: {وَإِذْ تَقُولُ للذي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ} يعني بالإسلام {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} بالعتق فأعتقته.
{أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ واتق الله وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ إلى قوله وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولًا} وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوّجها قالوا: تزوّج حلِيلة ابنه، فأنزل الله تعالى: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ولكن رَّسُولَ الله وَخَاتَمَ النبيين}.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم تبنَّاه وهو صغير، فلبث حتى صار رجلًا يقال له زيد بن محمد، فأنزل الله تبارك وتعالى: {ادعوهم لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله فَإِن لَّمْ تعلموا آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي الدين وَمَوَالِيكُمْ} فلان مولى فلان، وفلان أخو فلان، هو أقسط عند الله يعني أعدل.
قال أبو عيسى: هذا حديث غريب قد روي عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها.
قالت: لو كان النبيّ صلى الله عليه وسلم كاتمًا شيئًا من الوحي لكتم هذه الآية: {وَإِذْ تَقُولُ للذي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} هذا الحرف لم يُرْوَ بطوله.
قلت: هذا القدر الذي أخرجه مسلم في صحيحه، وهو الذي صححه الترمذي في جامعه.
وفي البخاريّ عن أنس بن مالك: أن هذه الآية: {وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ} نزلت في شأن زينب بنت جحش وزيد بن حارثة وقال عمر وابن مسعود وعائشة والحسن: ما أنزل الله على رسوله آية أشدّ عليه من هذه الآية.
وقال الحسن وعائشة: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتمًا شيئًا من الوحي لكتم هذه الآية لشدّتها عليه.
وروي في الخبر أنه: أمسى زيد فأوى إلى فراشه، قالت زينب: ولم يستطعني زيد، وما أمتنع منه غير ما منعه الله مني، فلا يقدر عليّ.
هذه رواية أبي عِصْمة نوح بن أبي مريم، رفع الحديث إلى زينب أنها قالت ذلك. وفي بعض الروايات: «أن زيدًا تورّم ذلك منه حين أراد أن يقربها؛ فهذا قريب من ذلك. وجاء زيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن زينب تؤذيني بلسانها وتفعل وتفعل! وإني أريد أن أطلقها، فقال له: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ واتق الله} الآية. فطلّقها زيد فنزلت: {وَإِذْ تَقُولُ للذي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} الآية».
واختلف الناس في تأويل هذه الآية، فذهب قتادة وابن زيد وجماعة من المفسرين، منهم الطبري وغيره إلى أن النبيّ صلى الله عليه وسلم وقع منه استحسان لزينب بنت جحش، وهي في عِصْمة زيد، وكان حريصًا على أن يطلّقها زيد فيتزوّجها هو؛ ثم إن زيدًا لما أخبره بأنه يريد فراقها، ويشكو منها غِلظةَ قولٍ وعصيان أمرٍ، وأذًى باللسان وتعظُّمًا بالشرف، قال له: «اتق الله أي فيما تقول عنها وأمسك عليك زوجك» وهو يخفي الحرص على طلاق زيد إيّاها.
وهذا الذي كان يخفي في نفسه، ولكنه لزم ما يجب من الأمر بالمعروف.
وقال مقاتل: زوّج النبيّ صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش من زيد فمكثت عنده حينًا، ثم إنه عليه السلام أتى زيدًا يومًا يطلبه، فأبصر زينب قائمة، كانت بيضاء جميلة جسيمة من أتمّ نساء قريش، فهوِيَها وقال: «سبحان الله مقلّبِ القلوب» فسمعت زينب بالتسبيحة فذكرتها لزيد، ففطِن زيد فقال: يا رسول الله، ائذن لي في طلاقها، فإن فيها كبرًا، تعظُم عليّ وتؤذيني بلسانها، فقال عليه السلام: «أمسك عليك زوجك واتقِ الله».
وقيل: إن الله بعث ريحًا فرفعت الستر وزينب مُتَفَضِّلة في منزلها، فرأى زينب فوقعت في نفسه، ووقع في نفس زينب أنها وقعت في نفس النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لما جاء يطلب زيدًا، فجاء زيد فأخبرته بذلك، فوقع في نفس زيد أن يطلقها وقال ابن عباس: {وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ} الحبَّ لها.
{وَتَخْشَى الناس} أي تستحييهم.
وقيل: تخاف وتكره لائمة المسلمين لو قلتَ طلِّقها، ويقولون أمر رجلًا بطلاق امرأته ثم نكحها حين طلقها.
{والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} في كل الأحوال.
وقيل: والله أحق أن تستحيي منه، ولا تأمر زيدًا بإمساك زوجته بعد أن أعلمك الله أنها ستكون زوجتك، فعاتبه الله على جميع هذا.
وروي عن عليّ بن الحسين: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان قد أوحى الله تعالى إليه أن زيدًا يطلق زينب، وأنه يتزوّجها بتزويج الله إياها، فلما تشكّى زيد للنبيّ صلى الله عليه وسلم خُلُقَ زينب، وأنها لا تطيعه، وأعلمه أنه يريد طلاقها، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم على جهة الأدب والوصية: «اتق الله في قولك وأمسك عليك زوجك» وهو يعلم أنه سيفارقها ويتزوّجها، وهذا هو الذي أخفى في نفسه، ولم يرد أن يأمره بالطلاق لِما علم أنه سيتزوّجها؛ وخشي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلحقه قول من الناس في أن يتزوّج زينب بعد زيد، وهو مولاه، وقد أمره بطلاقها، فعاتبه الله تعالى على هذا القدر من أن خشِي الناس في شيء قد أباحه الله له؛ بأن قال: «أَمْسِكْ» مع علمه بأنه يطلّق. وأعلمه أن الله أحق بالخشية، أي في كل حال.
قال علماؤنا رحمة الله عليهم: وهذا القول أحسن ما قيل في تأويل هذه الآية، وهو الذي عليه أهل التحقيق من المفسرين والعلماء الراسخين؛ كالزهريّ والقاضي بكر بن العلاء القشيريّ، والقاضي أبي بكر بن العربيّ وغيرهم.
والمراد بقوله تعالى: {وَتَخْشَى الناس} إنما هو إرجاف المنافقين بأنه نَهَى عن تزويج نساء الأبناء وتزوج بزوجة ابنه.
فأما ما روي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم هَوِي زينب امرأة زيد وربما أطلق بعض المُجّان لفظ عَشِق فهذا إنما يصدر عن جاهل بعصمة النبيّ صلى الله عليه وسلم عن مثل هذا، أو مستخِفّ بحرمته.
قال الترمذيّ الحكيم في نوادر الأصول، وأسند إلى عليّ ابن الحسين قولَه: فعليّ بن الحسين جاء بهذا من خزانة العلم جوهرًا من الجواهر، ودُرًّا من الدّرَر، أنه إنما عَتَبَ الله عليه في أنه قد أعلمه أن ستكون هذه من أزواجك، فكيف قال بعد ذلك لزيد: «أمسك عليك زوجك» وأخذتك خشية الناس أن يقولوا: تزوّج امرأة ابنه؛ والله أحق أن تخشاه.
وقال النحاس: قال بعض العلماء: ليس هذا من النبيّ صلى الله عليه وسلم خطيئة؛ ألا ترى أنه لم يؤمر بالتوبة ولا بالاستغفار منه.
وقد يكون الشيء ليس بخطيئة إلا أن غيره أحسن منه، وأخفى ذلك في نفسه خشية أن يفتتن الناس.
الثانية: قال ابن العربيّ: فإن قيل لأيّ معنى قال له: «أمسِك عليك زوجك» وقد أخبره الله أنها زوجه.
قلنا: أراد أن يختبر منه ما لم يعلمه الله من رغبته فيها أو رغبته عنها؛ فأبدى له زيد من النُّفرة عنها والكراهة فيها ما لم يكن علمه منه في أمرها.
فإن قيل: كيف يأمره بالتمسك بها وقد علم أن الفراق لابد منه؟ وهذا تناقض.
قلنا: بل هو صحيح للمقاصد الصحيحة؛ لإقامة الحجة ومعرفة العاقبة؛ ألا ترى أن الله تعالى يأمر العبد بالإيمان وقد علم أنه لا يؤمن، فليس في مخالفة متعلَّق الأمر لمتعلّق العلم ما يمنع من الأمر به عقلًا وحكمًا.
وهذا من نفيس العلم فتيقنوه وتقبلوه وقوله: «وَاتَّقِ اللَّهَ» أي في طلاقها، فلا تطلّقها.
وأراد نهي تنزيه لا نهي تحريم، لأن الأولى ألا يطلق.
وقيل: «اتَّقِ اللَّهَ» فلا تذمّها بالنسبة إلى الكِبْر وأذى الزوج.
{وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ} قيل تعلّق قلبه.
وقيل: مفارقة زيد إياها.
وقيل: علمه بأن زيدًا سيطلقها؛ لأن الله قد أعلمه بذلك.
الثالثة: روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال لزيد: «ما أجد في نفسي أوثق منك فاخطب زينب عليّ» قال: فذهبت وولّيتها ظهري توقيرًا للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وخطبتها ففرحت وقالت: ما أنا بصانعة شيئًا حتى أوامِرَ ربيّ، فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن، فتزوّجها النبيّ صلى الله عليه وسلم ودخل بها. قلت: معنى هذا الحديث ثابت في الصحيح.
وترجم له النسائي صلاة المرأة إذا خُطبت واستخارتها ربّها روى الأئمة واللفظ لمسلم عن أنس قال: لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد: «فاذكرها عليّ» قال: فانطلق زيد حتى أتاها وهي تُخَمّر عجينها. قال: فلما رأيتها عَظُمت في صدري، حتى ما أستطيع أن أنظر إليها، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها فولّيتها ظهري، ونَكَصْتُ على عقبي، فقلت: يا زينب، أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك؛ قالت: ما أنا بصانعة شيئًا حتى أوامِر ربّي؛ فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن. وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إذن. قال: فقال ولقد رأيتُنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعمنا الخبز واللحم حين امتدّ النهار، الحديث. في رواية حتى تركوه.
وفي رواية عن أنس أيضًا قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أَوْلَم على امرأة من نسائه ما أوْلَمَ على زينب؛ فإنه ذبح شاة قال علماؤنا: فقوله عليه السلام لزيد: «فاذكرها عليّ» أي اخطبها؛ كما بيَّنه الحديث الأول. وهذا امتحان لزيد واختبار له، حتى يظهر صبره وانقياده وطوعه.
قلت: وقد يستنبط من هذا أن يقول الإنسان لصاحبه: اخطب عليّ فلانة، لزوجه المطلقة منه، ولا حرج في ذلك.
والله أعلم.
الرابعة: لمّا وكَلَت أمرها إلى الله وصحّ تفويضها إليه تولّى الله إنكاحها؛ ولذلك قال: {فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا}.
وروى الإمام جعفر بن محمد عن آبائه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «وَطَرًا زَوَّجْتُكَها» ولما أعلمه الله بذلك دخل عليها بغير إذن، ولا تجديد عقد ولا تقرير صداق، ولا شيء مما يكون شرطًا في حقوقنا ومشروعًا لنا.
وهذا من خصوصياته صلى الله عليه وسلم، التي لا يشاركه فيها أحد بإجماع من المسلمين.
ولهذا كانت زينب تفاخر نساء النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: زوجكنّ آباؤكنّ وزوّجني الله تعالى.
أخرجه النسائي عن أنس بن مالك قال: كانت زينب تَفْخَر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم تقول: إن الله عز وجل أنكحني من السماء وفيها نزلت آية الحجاب؛ وسيأتي.
الخامسة: المُنْعَم عليه في هذه الآية هو زيد بن حارثة، كما بيناه؛ وقد تقدّم خبره في أوّل السورة.
وروي أن عمّه لقيَه يومًا وكان قد ورد مكة في شغل له، فقال: ما اسمك يا غلام؟ قال: زيد؛ قال: ابن من؟ قال: ابن حارثة. قال ابن من؟ قال: ابن شراحيل الكلبي. قال: فما اسم أمّك؟ قال: سُعْدَى، وكنت في أخوالي طيّ؛ فضمّه إلى صدره. وأرسل إلى أخيه وقومه فحضروا، وأرادوا منه أن يقيم معهم؛ فقالوا: لمن أنت؟ قال: لمحمد بن عبد الله؛ فأتَوْه وقالوا: هذا ابننا فردّه علينا. فقال: «أعْرِضُ عليه فإن اختاركم فخذوا بيده» فبعث إلى زيد وقال: هل تعرف هؤلاء؟ قال: نعم! هذا أبي، وهذا أخي، وهذا عمي. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «فأيّ صاحب كنتُ لك؟» فبكى وقال: لِمَ سألتني عن ذلك؟ قال: أخيّرك فإن أحببت أن تلحق بهم فالحق وإن أردت أن تقيم فأنَا من قد عرفتَ فقال: ما أختار عليك أحدًا. فجذَبه عمّه وقال: يا زيد، اخترت العبوديّة على أبيك وعمك! فقال: أيْ واللَّهِ العبودية عند محمد أحبّ إليّ من أن أكون عندكم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اشهدوا أني وارث وموروث» فلم يزل يقال: زيد بن محمد إلى أن نزل قوله تعالى: {ادعوهم لآبَآئِهِمْ} ونزل {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ}.
السادسة: قال الإمام أبو القاسم عبد الرحمن السُّهَيْلي رضي الله عنه: كان يقال زيد بن محمد حتى نزل: {ادعوهم لآبَآئِهِمْ} فقال: أنا زيد بن حارثة.
وحرم عليه أن يقول: أنا زيد بن محمد.
فلما نُزِع عنه هذا الشرف وهذا الفخر، وعلِم الله وحشته من ذلك شّرفه بخِصِّيصة لم يكن يَخُصّ بها أحدًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أنه سماه في القرآن؛ فقال تعالى: {فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا} يعني من زينب.
ومَن ذكره الله تعالى باسمه في الذكر الحكيم حتى صار اسمه قرآنًا يُتْلَى في المحاريب، نوّه به غاية التنويه؛ فكان في هذا تأنيس له وعِوض من الفخر بأبوّة محمد صلى الله عليه وسلم له.
ألا ترى إلى قول أُبَيّ بن كعب حين قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله أمرني أن أقرأ عليك سورة كذا» فبكى وقال: أوَذُكِرتُ هنالك؟ وكان بكاؤه من الفرح حين أخبر أن الله تعالى ذكره؛ فكيف بمن صار اسمه قرآنًا يُتلى مخلَّدًا لا يبيد، يتلوه أهل الدنيا إذا قرءوا القرآن، وأهل الجنة كذلك أبدًا، لا يزال على ألسنة المؤمنين، كما لم يزل مذكورًا على الخصوص عند رب العالمين؛ إذ القرآن كلام الله القديم، وهو باق لا يبيد؛ فاسم زَيْد هذا في الصحف المكرّمة المرفوعة المطهرة، تذكره في التلاوة السّفَرةُ الكرام البَرَرَة.
وليس ذلك لاسم من أسماء المؤمنين إلا لنبيّ من الأنبياء، ولزيد بن حارثة تعويضًا من الله تعالى له مما نُزع عنه.
وزاد في الآية أن قال: {وَإِذْ تَقُولُ للذي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ} أي بالإيمان؛ فدلّ على أنه من أهل الجنة، علِم ذلك قبل أن يموت، وهذه فضيلة أخرى.
السابعة: قوله تعالى: {وَطَرًا} الوَطَر كل حاجة للمرء له فيها همّة؛ والجمع الأوطار.
قال ابن عباس: أي بلغ ما أراد من حاجته؛ يعني الجماع.
وفيه إضمار؛ أي لما قضى وطره منها وطلّقها «زَوّجْناكَها» وقراءة أهل البيت {زوّجْتُكها}.
وقيل: الوطر عبارة عن الطلاق؛ قاله قتادة.
الثامنة: ذهب بعض الناس من هذه الآية، ومن قول شعيب: {إني أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ} [القصص: 27] إلى أن ترتيب هذا المعنى في المهور ينبغي أن يكون: أنكحه إياها فتقدّم ضمير الزوج كما في الآيتين.
وكذلك قوله عليه السلام لصاحب الرداء: «اذهب فقد أَنْكَحتُكها بما معك من القرآن» قال ابن عطية: وهذا غير لازم؛ لأن الزوج في الآية مخاطب فحسن تقديمه، وفي المهور الزوجان سواء، فقدّم من شئت، ولم يبق ترجيح إلا بدرجة الرجال، وأنهم القوّامون.
التاسعة: قوله تعالى: {زَوَّجْنَاكَهَا} دليل على ثبوت الوليّ في النكاح؛ وقد تقدّم الخلاف في ذلك.
روي أن عائشة وزينب تفاخرتا، فقالت عائشة: أنا التي جاء بي المَلَك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم في سَرَقة من حرير فيقول: «هذه امرأتك» خرّجه الصحيح.
وقالت زينب: أنا التي زوّجني الله من فوق سبع سموات.
وقال الشعبي: كانت زينب تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم إني لأَدِلّ عليك بثلاث، ما من نسائك امرأة تَدِلّ بهنّ إن جَدّي وجدَّك واحد، وإن الله أنكحك إيّاي من السماء، وإن السّفير في ذلك جبريل.
وروي عن زينب أنها قالت: لما وقعت في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستطعني زيد، وما أمتنع منه غير ما يمنعه الله تعالى منّي فلا يقدر عليّ. اهـ.